المحاضرة الأولى
نشأة الكتابة
الأستاذ: أبو علاء الدين الطيب بوخرصة
عرف الإنسان اللغة منطوقة بشكلها الصوتي المستخدم الآن ، وهو
الأساس فيها . ولم يعرف الشكل المكتوب منها ولم يتعلم الكتابة إلا بعد أن
استخدم اللغة المنطوقة فترة زمنيةً طويلةً ، وعندما احتاج لطريقة يستطيع من
خلالها حفظ ما يقوله عندها عرف الكتابة . ولم يعرف الإنسان اللغة المكتوبة
( الكتابة) بين يومٍ وليلةٍ بقدر ما عرفها عبر سلسلة من الأطوار والمراحل
نستطيع أن نجملها في الأطوار الآتية :
1. الطور الصوري الذاتي : وهو الطور الذي استخدم فيه الإنسان الصورة
لتفريغ شحناته العاطفية ، أو للترويح عن النفس ، وهو الطور الذي ما زال
الفنانون يستخدمونه في لوحاتهم الفنية .
2. الطور الصوري الرمزي : وهو الطور الذي استخدم فيه الإنسان الصورة
ليرمز بها عن بعض الأحداث العظيمة التي مرت عليه في حياته في المرحلة
الأولى ، ومن ثم تطور واستخدم الصورة ليرمز بها عن مفاهيم ومدركات حسية
محددة . ولعل هذا الطور ما زال مستخدم في لغة اليافطات مثل علامات المرور
المتعددة والمختلفة ، والعلامات المستخدمة في الصناعات ، والأدوية ،
وتوجيهات السواح والأجانب في مختلف البلدان . ويعتبر هذا الطور لغةً عالمية
يفهما جميع أفراد البشر باختلاف لغاتهم . وقد استخدم الإنسان هذا الطور في
تطور لاحق وصار يستخدم الصورة باعتبارها إشارة إلى كلمةٍ كاملةٍ ليعبر عن
أحداث مرت به . كما هو الحال اليوم إذ نرمز للسلام بصورة الحمامة أو غصن
الزيتون .
3. الطور الصوري المقطعي : وهو الطور الذي تستخدم فيه الصورة للتعبير عن
مقطع من الكلمة وليس الكلمة كلها كما كان الحال في الطور السابق . وهذا
الطور مستخدم في الكتابة الهيروغولوفية .
4. الطور الرمزي : وهو الطور الذي تستخدم فيه الصورة للإشارة إلى الحرف
الواحد في الكلمة ، فمثلاً إذا أردنا أن نعبِّر عن معنى ومفهوم الشراب
فنرسم ثلاث صور هي : الأولى صورة الشمس إشارة إلى حرف الشين ، وصورة الرأس
إشارة إلى حرف الراء ، ومعها صورة البيت إشارة إلى حرف الباء ( ).
شكل رقم ( 1) يبين الطور الصوري الرمزي
5. الطور الرمزي البحت : وهو الطور الذي نستخدمه الآن في كتابة جميع
اللغات الحية اليوم ، وهو في الأصل منبثق من الطور السابق بعد إجراء كثير
من التعديلات . ففي الأصل كانت اللغة الآرامية تستخدم الطور الصوري فترسم
صورة الثور alfa ويسمى ألفا في الآرامية للتعبير عن صوت الألف ، وصورة
البيت ( في الآرامية بيتا bita ) للتعبير عن صوت الباء ، وصورة الجمل ( في
الآرامية gamla) للعبير عن صوت الجيم وهكذا . ففي مرحلةٍ تالية فكر
الرسامون في اختصار الصورة فبدلا من رسم صورة الثور كاملة رسموا رأسه ، ثم
في تطور الأمر لاحقاًَ واختصروا الصورة فرسموا قرناه ، ثم اختصروها أكثر
فرسموا قرناً واحداً وهو الرمز الذي أخذته العربية ا ، ثم أخذته اللاتينية
فأضافت له خطاً أفقياً A وهذا ما حدث لصورة بيتا ( بيت) إذ رُسِم البيت
بسقف ونوافذ وباب ، ثم اختصر إلى بيت بلا نوافذ ، ثم إلى بيت بلا نوافذ
وباب ، ثم بيت هو مربع بلا نوافذ أو سقف أو باب وهو الرمز الذي
استخدمته العربية ( دون نقط ) وأخذته اللاتينية وأضافت له خطاً
أفقياً . وهكذا مع بقية الصور .
الكتابة العربية :
كما قلنا أخذت العربية من الآرامية الرموز الأبجدية التي هي في
الأصل صور كاملة وتم اختصارها كما قلنا . وكان عدد الحروف الأبجدية في
الآرامية ست وعشرون رمزاً أو حرفاً وهي:
ا - - ح - د - هـ - و – ر - ح - ط - ى – كـ - ل – م – - س –
ع – و - ص
وهي : - ( أ ، ب ، ج ، د ، هـ ، و ، ز ، ح ، ط ، ي ، ك ، ل ، م ، ن ، س ، ع ، ف ، ص ، ق ، ر ، ش ، ت )
بنفس هذا الترتيب المسمى بالترتيب الأبجدي . ولم تكن الحروف العربية
حتى ذلك الوقت منقطة أي لم تستخدم النقط حتى عهد الدولة الأموية . وأخذ
العرب تلك الرموز الآرامية وأضافوا إليها ستة أحرف سموها بالروادف وهي ( ض
، ذ ، ث ، غ ، ظ ، خ ) . وهي الحروف التي تعبِّر عن الأصوات غير الموجودة
في اللغة الآرامية وموجودة في اللغة العربية . ومن يومها أصبحت الحروف
الثماني والعشرين تمثل الأبجدية العربية .
وظل العرب حتى نزول الإسلام وإلى عهد على بن أبي طالب يستخدمون الحروف
الثماني والعشرون دون نقط . وكانوا يفرقون بين الحروف المتشابهة الشكل
بالسليقة والفطرة والخبرة . وفي عهد على بن أبي طالب دخل المجتمع الإسلامي
العربي كثير ممن هم من غير العربية أي لم تكن اللغة العربية لغةً أماً
لهم ، الأمر الذي أدي إلي تفشي ظاهرة " اللحن " وهي تعني الخطأ في نطق
الحركة المصاحبة أواخر الكلمات في الجملة العربية بسبب تغير هذه الحركة حسب
وظيفة الكلمة في الجملة أي موقعها الإعرابي . ولمَّا لم يكن للإعراب وجود
في اللغات الأخرى غير العربية كان من البديهي أن يُخطئ غير العرب في هذا
الأمر . ولما وصل أمر اللحن الدرجة التي خاف معها على ابن أبي طالب على
سلامة اللسان عند قراءة المسلمين غير الناطقين بالعربية للقرآن الكريم ،
كلَّف أبا الأسود الدوؤلي لبحث الظاهرة والعمل على حلها . فاهتدى أبو
الأسود الدؤولي إلى اختراع ما عرف حينها بنقاط الإعراب . وهي نقط استخدمها
للتفريق بين حركة الحرف الأخير في الكلمة للتعبير عن الضمة أو الفتحة أو
الكسرة . وكانت على النحو التالي ( ):
1. نقطة فوق الحرف إشارة للضمة : ــ ( أي الحرف مضموم )
2. نقطة بين يدي الحرف إشارة للفتحة :ــ ( أي الحرف مفتوح )
3. ونقطة تحت الحرف إشارةً للكسرةِ . :ــ ( أي الحرف مكسور )
فمثلاً نكتب جملة شربَ الولدُ الماءَ كالآتي :
سر الولدالمــا
واستمر الأمر هكذا كتابة الحروف دون نقط ، وقد ساهم ذلك كثيراً في تخفيف ظاهرة اللحن .
وفي عهد عبد الملك بن مروان ظهرت ظاهرة أخرى وهي " التصحيف " وهي
تعني الخلط بين الحروف المتشابهة الشكل ، وطبعاً الظاهرة تفشت بين الناطقين
بالغات أخرى غير العربية فكُلّف هذه المرة عالمين جليلين هما نصر بن عاصم ،
ويحي بن يعمر للعمل على حل المشكلة والقضاء على هذه الظاهرة . وبعد تفكير
وتمحيص اهتديا لما سموه بنقاط الإعجام والإعجام هنا يُقصد به التوضيح . وهي
النقط المستخدمة حتى اليوم مثل النقطة تحت الباء للتفريق بينها وبين النون
التي وضعوا لها نقطة فوقها ، والثاء وضعوا لها ثلاث نقاط فوقها للتفريق
بينها وبين التاء التي وضعوا لها نقطتين فوقها . ونقطة فوق الخاء للتفريق
بينها وبين الجيم التي وضعوا لها تحتها بينما تركوا الحاء بلا نقط ، ونقطة
فوق الغين للتفريق بينها وبين العين وهكذا الياء " ثلاث نقاط تحتها " ،
والشين " ثلاث نقاط فوقها "للتفريق بينها وبين السين ، والذال " نقطة واحدة
فوقها "للتفريق بينها وبين الدال ، والظاء " نقطة واحدة فوقها" للتفريق
بينها والطاء، والضاد " نقطة واحدة فوقها" لتمييزها عن الصاد، والقاف "
نقطتان فوقها " لتمييزها عن الفاء التي ميزوها عن الواو بوضع نقطة واحدة
فوقها" وهكذا .
ولم يقم هذان العالمان بذلك فحسب بل لكي يسهَِّلوا حفظ نظام نقط
الحروف قاموا بإعادة ترتيب الأبجدية العربية اعتماداً على فكرة وضع الحروف
المتشابه الشكل جنباً إلى جنب . فبدئوا بالألف لأنها أول الحروف ، ثم وضعوا
بعدها الباء ، ثم وضعوا شبيهاتها وهما التاء والثاء ، ثم انتقلوا إلى
الجيم التي وضعوا بعهدها شبيهتيها وهما الحاء والخاء ، ثم انتقلوا إلى
الحرف الرابع في " ابجد هوز " وهو الدال فوضعوا الدال ثم شبيهتها الذال ،
ثم الراء ، و شبيهتها الزاي ، ثم تجاوزا الهاء - حسب الترتيب- بسبب أنه ليس
لها شبيه في الشكل ثم تجاوزا الواو لأنها منقلبة إذ تتحول إلى ياء أو ألف
أحياناً ، ثم تجاوزوا الزاء لأنها وضعت مع الراء والدال . ثم تجاوزوا الحاء
لأنها وضعت بجانب الجيم ، ثم تجاوزوا الطاء لعدم وجود شبيه لها – في غياب
الظاء التي هي من الروادف- ثم تجاوزوا الياء لأنها ضعيفة ومتغيرة . ثم
تجاوزوا الكاف واللام والميم والنون لعدم وجود شبيهات لها . ثم وضعوا السين
بجانبها ما يشبهها الشين والصاد والضاد . ثم وضعوا معها الحروف المفخمة
وهي الطاء والظاء . ثم وضعوا العين ومعها شبيهتها الغين ، ثم وضعوا الفاء و
شبيهتها القاف ( التاء وضعت مع الباء ). ثم أعادوا الكرة وبدئوا يدونون
الحروف التي تجاوزوها وهي الكاف ، واللام ، والميم ، والنون ، والهاء ،
والواو ، والياء . وهو الترتيب التي ما زلنا نستخدمه إلى الآن .
أ ، ب ، ت ، ث ، ج ، ح ، خ ، د ، ذ ، ر ، ز ، س ، ش ، ص
، ض ، ط ، ظ ، ع ، غ ، ف ، ق ، ك ، ل ، م ، ن ، هـ ، و ،
ي .
استمر الحال على ما هو عليه ، وكان الذين يقومون بالكتابة يستخدمون
لونين من المداد للكتابة إذ يضعون نقاط الإعجام بلون المداد الذي يكتبون به
، ما نقاط الإعراب فيضعونها بلون مختلف عن اللون الذي يكتبون به الحروف
والكلمات . ولمَّا لم يكن في مقدور جميع الكتَّاب توفير نوعين مختلفي اللون
من الحبر فكَّر الخليل بن أحمد الفراهيدي في طريقة لمعالجة مشكلة التعارض
بين نقاط الإعراب ونقاط الإعجام . فاهتد ى إلى ما عُرِف بعلامات الإعراب
المعروفة والتي ما زلنا نستخدمها إلى اليوم . فعبَّر عن الفتحة بألف صغيرة
مبسوطة فوق الحرف لأنه وجد أن الفتحة ما هي إلا ألف قصيرة . وعن الكسرة
بألف مبسوطة صغيرة توضع تحت الحرف ، وعبِّر عن الضمة بواو صغيرة فوق الحرف
لأن الضمة ما هي إلا واو قصيرة . كما وضع علامة فرَّق بها بين الألف
والهمزة وهي عبارة عن عين توضع فوق الهمزة وذلك لأن كل من مخرج الهمزة
والعين واحد . كما وضع عين صغيرة أيضاً فوق الكاف للتفريق بينها وبين اللام
. كما عبِّر عن الحرف الشديد ( المشدد ) بوضع شين صغيرة فوقه . ويمكننا أن
نجمل علامات الخليل بن أحمد في الآتي :
1. الفتحة : ــَـــ 2. الضمة : ــُـــــ 3.الكسرة : ـــــــِ
4. الهمزة : ء 5.الكاف : ك 6.الحرف المشدد : ــــــــّ
ثم وضعت علامات الترقيم الأخرى تباعاً بعد ذلك .
نشير إلى أن الموضوع التالي ليس ضمن موضوعات المقرر بل جاء بهدف تعريف
الطالب بأهمية ومكانة اللغة العربية مقارنة باللغات الأخرى التي يرى البعض
أنها أرقى من العربية.