جندي المستقبل
قرب هيكل زهور ،فوق تلة مطلة على البحر ،يجلس طفل صغير ،يتأمل الشمس و هي تغيب ،حين تودعه الى لقاء اخر في غد جديد ،كيف أنها تنشر أشعتها لتنير طريق كل شخص ،كبير و صغير ،فقير و غني ،أبيض و أسود ،مسلم و مسيحي و يهودي ،دون تمييز و تفرقة .
هذا الطفل الذي لم يعش حقوقه التي حرم منها ،لم يذق الحرية ،هي في نظره كلمة ما بين حروفها لذة و حلاوة ،كلمة ينايها و يطلبها ،يريد الغوص في بحر الأحاسيس لما يحظى بها .
نظر صابر لى هيكل ورود بجواره ،فجأة !انهمرت دموعه الساخنة على خديه الناعمتين لتتساقط على تلك الورود الجميلة ،قد تذكر حياته المرة ،تذكر اخر مرة رأى وجه أمه الحنون، عندما عادا معا من المدرسة ،فتساقط الرصاص الصواريخ من السماء ، خافت أمه من أن يصاب ،فضمته اليها كي تحميه من تلك الطلقات الحاقدة ،لكن أصيبت ،فغادرت الحياة شهيدة .تذكر آخر ابتسامة لأبيه عندما ودعه للعودة الى ساحة الحرب ،فاستشهد فيها لسبيل شريف ألا و هو سبيل الله و الوطن .تذكر آخر مرة ربّت أخاه على كتفه ،و قال له
لا تحزن !سأعود قريبا و نلعب سويا ككل مرة ) قبل أن يخرج الى المسجد الذي استشهد و هو في طريقه اليه .تذكر غرفته الحزينة التي صارت أطلالا الآن ،غرفته التي كان ينام بها و أمه تحكي له قصصا عن الجنود الشجعان و الأبطال الذين فدوا وطنهم بأرواحهم ،وكانت تقول له قبل النوم
لا تيأس يا ولدي صابر !و املأ قلبك أملا ،فدوما يشرق الصباح بعد ظلمة حالكة ،كذلك الوطن ،لايزال يعيش ساعات الليل الطويلة ،فقط علينا أن نغمض أعيننا لترتاح من كثرة التأمل في الظلام ).
رحل الكل ،وبقي وحيدا ،رحلت الشمس أيضا ،لكنها ستعود ،أما أسرته فلن تعود .أخذ غصنا ،و بدأ يخط رسما يشبه أمه ،ثم تمدد في حضن ذلك الرسم ،حاول أن يعيش عالم الأحلام الجميلة كي يبتعد عن الواقع المظلم ،أراد أن يحلم بمكان سعيد و آمن ،لكن ..لم يستطع !جلس ومحا ذلك الرسم و هو يذرف دموعا حزينة لا متناهية ،لم يعد يتحمل !فكلما حاول أن يسبح في أحلامه ،اسودت الصورة و ضعف الصوت ،و ظهرت صور بلده الحزين ،و أصوات البنادق و الرصاص تملؤ المكان .
هنا أحس صابر بوحدة خانقة ،فكاد يموت من الضيق .لكن ،طلّ عليه القمر ،فسأله :
- ما بك حزينا و مكتئبا ؟!
فأجابه صابر بنبرة حزينة :
- و هل تريدني أن أبتسم بعد كل هذا ؟!
- بعد ماذا ؟!
- أنت لا تعرف شيئا عن معاناتي ،لا تعرف ماذا يحدث كل صباح ،أنت تأتي في الليل فقط لتواسيني ،و لا ترى سوى الظلام ..
فأجهش صابر بالبكاء و نعومة صوته تقول
هذا ابن سبع سنوات ).
أحس القمر بمعاناته و ألمه ،و قال له :
- هذا صحيح ،أنا القمر حساس كما يعهدني الجميع ،فكيف تريد أن أسمع الصراخ و الأنين ،و بكاء المساكين ،أن أرى النساء و الأطفال و الشيوخ يموتون ،و أنا لا أفعل شيئا سوى المشاهدة ،سأتلاشى و أندثر اذا حدث كل هذا .قد عَلَت الشمس علامات الحزن و الكآبة ،فسأتها عن السبب ،فأجابتني اجابة يا ليتني لم أسمعها ،قالت أنها تغبطني كوني قمرا ،أقدم في الليل و لا أرى سوى أضواء سيارات الاسعاف متناثرة في كل مكان ،لا أعرف ما سبب كل ذلك ،لا أرى كل تلك المجازر التي تحدث كل يوم.
رفع صابر رأسه ،و نظر إلى القمر الحزين ،فقال له بصوت عالٍ :
اذا أنا أتجرع من كأس حارة و أنت تشاركني في ذلك ،لكن..من أراد حصول هذا ،من حرمني و أطفال بلادي حقوقنا ؟! من دمر بسمتنا ،و أمات ضحكتنا ،و قتل فرحتنا ،و سلبنا أسرتنا ؟! من ؟!ألا يكفيه كل هذا ؟! عشنا و لا نزال نعيش في الام و أحزان لا تنتهي ؟! لكن لماذا ؟
: حزن القمر على صابر أشد حزن فقاطعه غاضبا
- ما بك يائس هكذا ؟!أنسيت كلام أمك الحنون عن الصبر ،و وعدك لها ؟
غضب صابر من كلام القمر ،فقال له :
. لا لم أنسى ،و لكني لم أستطع مقاومة الحزن-
أ نسيت عندما قال لك أخوك لا تحزن ؟-
. لا ،لم أنسى ،و لكني وحيد ،و هذه الوحدة خانقة-
-أنسيت وعدك لوالدك ؟!قد كان مسرورا بك ،ظن أن له ابنا يحب وطنه ،و سيغدو جنديا يدافع عنه و يحميه ،لكن ..يا للأسف !أنت الآن جبان ،جئت الى هذا المكان البعيد عن المدينة ،هاربا من الرصاص ،حقا ..إنك لخائن.
: مثل صابر أمام القمر ،فقاطعه قائلا
- سأعود الى المدينة ،و أساعد أطفال الحجارة في مسيرتهم ،و عندما أكبر ،سأصير جنديا يعشق وطنه و يحميه ،و لن أرجع اليك إلا و أنا منتصر على الأعداء ،هذا وعد قطعته على أسرتي و عليك أيضا ،فلا تنسى ،و شكرا لك عل إحيائك الأمل في روحي .
فابتسم القمر ،و مضى الطفل الفلسطيني ’’ صابر ’’ في طريقه جندي المستقبل .