[rtl]المحاضرة الأولى[/rtl]
[rtl]تجربة دار حوسبة النص العربي[/rtl]
في معالجة النص العربي حاسوبياً
[rtl]الأستاذ مأمون حطاب[/rtl]
[rtl]مدير عام دار حوسبة النص العربي[/rtl]
عمان- الأردن
الثلاثاء 11 ربيع الآخر 1427هـ- 9 أيار 2006م
مقدمة
نضع هنا تجربة دار حوسبة النص العربي من واقع المشاريع التي قمنا بها والقضايا التي تعرضنا لها بالبحث أو تعرضت لنا أثناء عملنا في رحلة علمية وعملية لم ندر في بدايتها إلى أين ستؤدي بنا. وقد جمعنا بين السرد التاريخي والنقد المنهجي للأعمال والنتائج التي توصلنا إليها، ولموضوع حوسبة اللغة العربية من واقع تجربتنا نحن، وما استقرت عليه رؤيتنا، حالياً، بناء على سنوات العمل في هذا المجال. ونحن نعرض هنا ما وصلت إليه تجربتنا الخاصة، اليوم، في عالم حوسبة اللغة، والعوالم التي تحيط به ولا ندعي أحكاماً مطلقة ولا نهائية.
[rtl]وقد أردنا أن يكون الهدف الأساس من هذا العرض، وهو جزء من تقرير داخلي أعددناه مطلع هذا العام، الإجابة عن سؤالين: الأوّل يتعلّق بمدى جدوى استخدام "اللسانيّات العربيّة الحديثة" بوضعها الحالي – حسب ما نرى - في حوسبة اللغة العربيّة، والثّاني يتّصل بمعرفة إلى أيّ حدّ استفدنا في عملنا من هذه اللسانيّات في حوسبة اللغة العربيّة. [/rtl]
بدأت "دار حوسبة النص العربي" العمل في عام 1994. ولم يكن معنى حوسبة اللغة حينها واضحاً لنا، إنما كانت ثقتنا بالحاسوب كبيرة إلى درجة اعتبار الموضوع محصوراً في فهم كيفية برمجته ثم تطويعه لخدمة اللغة. أما اللغة ذاتها فكنا نراها تنتظر من يحوسبها موثقة في كتب اللغة التي نعرفها ثقافة لا تخصصاً. وعملنا في حوسبة الصرف العربي، فكان هذا الموضوع ليناً طيعاً للحوسبة، إلى درجة أننا تعززت رؤانا تلك حول ماهية عملية الحوسبة وأنها مسألة تحد حاسوبي بالدرجة الأولى.
[rtl]ظل هذا هو الحال حتى بدأنا مشروع حوسبة النحو في عام 1998، واضطررنا للتعرف إلى تشومسكي وأعماله بعد أن ضاقت بنا السبل في محاولاتنا حوسبة النحو. وكان هذا مدخلنا إلى عالم لسانيات الحاسوب. وكان هذا المدخل بداية تحول منهجي في آليات عملنا حوسبة اللغة، وفتح أمامنا أبواباً معرفية واسعة شاهدنا من خلالها ما يحدث من حركة علمية في العالم مما زودنا برؤى وآفاق جديدة.[/rtl]
ولم ننجز الكثير في حوسبة النحو، بل اكتفينا بتطوير نموذج أولي في عام 2000م، عدنا بعده للعمل فيما يمكن بناؤه من تطبيقات اعتماداً على عملنا في الصرف. وكان السبب في هذه العودة إضافة إلى بطء التقدم في حوسبة النحو أننا استنفدنا مواردنا وصرنا بحاجة إلى مصادر دخل يمكن أن توفرها التطبيقات كي نتمكن من الاستمرار.
[rtl] لكننا وجدنا من الضروري في هذه المرحلة حتى نتمكن من بناء تلك التطبيقات إعادة تطوير عملنا في الصرف بالاستفادة من المعرفة الجديدة التي حصلنا عليها في لسانيات الحاسوب، ونتيجة لتطور لغات البرمجة وخوارزمياتها. وقد كان هذا. ثم طورنا بناء عليه التدقيق الإملائي والتشكيل الآلي الجزئي، كما طورنا المفهرس العربي الذي استخدمناه فيما بعد في أكبر تطبيق أنجزناه حتى الآن وهو محرك البحث العربي الذي سميناه (الدَّال).[/rtl]
وتزامن مع هذا العمل بداية تطويرنا المعجم المحوسب للغة العربية في عام 2003، الذي راعينا في تصميمه أن يحتوي المعرفة اللغوية التي تمثل مستويات اللغة المختلفة إضافة إلى البعد الإحصائي الرياضي.
وقد قمنا في بداية هذا العام بإنشاء (مركز أبحاث حوسبة اللغة العربية وتطبيقاتها في الذكاء الاصطناعي) ليكون مركزاً بحثياً مستقلاً عن دار حوسبة النص العربي. وهو مركز أبحاث مفتوح لجميع الباحثين المهتمين بحوسبة اللغة، وبلسانيات الحاسوب.
[rtl] إن حوسبة اللغة العربية الفصحى عمل ذو أبعاد حضارية مهمة، وهو عمل ممتع، لكنه شاق ومكلف، وعائده المادي في عالم اليوم قليل. وفي غياب التبني المؤسسي لهذا العمل فإننالم نجتز بعد هذه السنوات مرحلة القلق على مستقبل استمرار عملنا في هذا المضمار. [/rtl]
عناصر عملية حوسبة اللغة
[rtl]إن عملية حوسبة اللغة تحتاج في تصورنا إلى توفر عناصر أساسية هي العاملين المؤهلين الذين سيقومون بالحوسبة من فنيين ولغويين، والإطار النظري المتمثل في موضوع قابل للحوسبة بناء على شروط من الضروري أن تتوفر فيه، ولغة البرمجة المناسبة وخوارزمياتها، وأجهزة الحاسوب المناسبة.[/rtl]
وقد اخترنا الحديث عن جوانب من هذه العناصر تتلاءم مع المقام الذي أتاحه برنامج الموسم الثقافي لمجمع اللغة العربية الأردني. ورأينا التركيز على الجانب النظري المتمثل في تجربتنا ورؤيتنا للسانيات الحاسوب العربية.
لقد كان لتطور أجهزة الحاسوب والعتاد المرافق لها أثر كبير في تجاوز مشاكل كثيرة واجهت المحوسبين الأوائل للغة مثل إمكان تخزين وتمثيل المحارف العربية وما يتعلق بها من توحيد لقوائم تلك المحارف. ومثل تجاوز المشاكل الناتجة عن بطء الحاسوب وصغر سعة استيعابه مما أفاد كثيراً الدراسات الصوتية وبناء المعاجم.
[rtl]ونعتقد أنه كان لزيادة سرعة الحاسوب وسعة استيعابه أثر مهم على ميل الأبحاث نحو الحوسبة القائمة على إنشاء قواعد البيانات والإحصاء بدل تلك التي تعتمد الخوارزميات المجردة والتمثيل الرياضي، مما سهل كثيراً من المقاربات التي حاولت حوسبة اللغة من خلال النمذجة الرياضية المجردة.[/rtl]
العاملون
[rtl]لأن حوسبة اللغة بحث بيني تشترك في بنائه المعرفي عدة علوم ومجالات، فإن العمل فيه يتطلب بناء حصيلة معرفية كافية ومتكاملة من هذه العلوم المشتركة إلى الحد الذي يسمح باستمرار البحث وإنجازه. وهذا لم يكن متاحاً لنا عندما بدأنا نظراً لغياب الإعداد المنهجي الذي يمكّن خريجي جامعاتنا العربية من التعرض لمثل هذا الموضوع وما يرتبط به من قضايا تتعلق بالثقافة والفكر والتراث. [/rtl]
[rtl]وفي سعينا لتشكيل فريق العمل كانت أولى ملاحظاتنا التمييز في اصطلاحنا بين اللسانيين واللغويين، فاستخدمنا مصطلح اللسانيين للدلالة به على الدارسين للنظريات اللسانية الغربية الحديثة، ومصطلح اللغويين للمشتغلين بالتراث اللغوي العربي. [/rtl]
[rtl]وقد لاحظنا غياب اللغويين عن ساحة المعالجة الآلية للعربية إلا ما ندر، ومن تطرق إلى هذا المجال هم اللسانيون بسبب دراساتهم للنظريات اللغوية الغربية التي تطرقت إلى مسألة حوسبة اللغة بإجراء أبحاث ودراسات في ذلك، وغالباً من غير اتصال بالحاسوبيين؛ لذا كانت تلك الدراسات مقتصرة على الجانب البحثي من دون التطبيقي. [/rtl]
وفي المقابل وجدنا هيمنة الحاسوبيين على موضوع حوسبة اللغة العربية، بل كانوا هم أول من بادر إليها؛ وقد أدى هذا في البدايات إلى تغلب الجانب الفني التقني على اتجاه البحوث إلى درجة دعتنا للتساؤل أحياناً عن اللغويين ودورهم في حوسبة اللغة.
ومما يرتبط بموضوع العاملين، فقد كانت الحاجة ملحة إلى الاطلاع على الجهود العربية التي أسهم بها الباحثون في حوسبة اللغة نظرياً وتطبيقياً. وما زالت عقبات وصعوبات البحث عن تلك الجهود ماثلة أمامنا حتى اليوم، وعلى رأسها: ندرة المصادر العربية التي تتناول المعالجة الآلية للغة في المكتبات العربية؛ فضلاً عن مشكلة القصور في توفر مصادر اللسانيات الحاسوبية التي تعاني منها تلك المكتبات.
[rtl]لقد وجدنا أن أغلب الدراسات التي تناولت هذا المجال تُطرح في الندوات والمؤتمرات التي تقام للمتخصصين فيه، أو تنشر متناثرة في مجلات علمية، ولا يخفى طبعاً ما للحصول على هذه المجلات العلمية والسجلات العلمية للندوات في العالم العربي من صعوبات وبطء في الاتصالات بالجهات التي تصدرها. كما أن كثيراً من البحوث التي تناولت التطبيق العملي لحوسبة العربية أو الجانب التقني في ذلك مكتوبة باللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية ومنشورة في ما لم نتمكن من حصره أبداً من مجلات أو مؤتمرات عالمية.[/rtl]
[rtl]الحوسبة واللسانيات الحديثة[/rtl]
إن هدف الحوسبة هو الوصول إلى تقنية الفهم الآلي للغة أو إلى درجة من درجات الفهم، ثم تطوير تطبيقات تبنى على هذه التقنية لتستخدم في التعليم والأعمال وجميع مجالات الحياة التي يدخل فيها الحاسوب، بحيث تحفظ للعربي لغته عند تعامله مع هذه التطبيقات فلا تضمحل صلته بموارد هويته بانتشار التقنية إلى التعليم والأعمال وبقية مناحي الحياة. وعليه فالواضح أن الحوسبة وسيلة لا غاية في ذاتها.
وعند الحديث عن العلاقة بين حوسبة اللغة العربيّة واللسانيّات الحديثة، واعتمادها عليها أو عدمه، ينبغي التّنبّه أوّلاً إلى قضيّتين: الأولى أنّ عمليّة الحوسبة –أيّة حوسبة- هي بطبيعتها تحتاج ابتداءً إلى وجود نموذج وصفيّ دقيق لما يُراد حوسبتُهُ، وأنّ غياب مثل هذا النّموذج يتنبّأ لنا بالحال الّتي ستكون عليها عمليّة الحوسبة من العجز والقصور، والقضيّة الثّانية هي أنّ كثيراً من العاملين في مجال حوسبة اللغة العربيّة هم أيضاً باحثون لسانيّون.
[rtl]وبينما تقودنا النّقطة الأولى إلى سؤالٍ عن إمكان الاعتماد على نظريّة لسانيّة حديثة لم تكتمل بعدُ في إجراء حوسبة للغّة، فإنّ النّقطة الثّانية تقودنا إلى تعليل حدوث هذه الحوسبة واقعيّاً برغم عدم اكتمال النّظريّة، بسبب أنّ العاملين في الحقلين هم أنفسهم.[/rtl]
ومن الجدير ذكره مرة أخرى أنّ كثيراً من الدّراسات والأبحاث ومشاريع الحوسبة كانت تصدر عن النّظريّة اللسانيّة القديمة أي النّحو والصّرف والدّلالة حسبما درسها العلماء العرب القدماء. بل إنّ مجالاً كاملاً كالمعالجة الصّرفيّة لا نكاد نجد فيه أثراً للمدارس اللسانيّة الحديثة.
لقد اعتمدنا على سجلاّت وقائع ثلاثٍ من النّدوات والمؤتمرات المختصّة بالبحوث الحاسوبيّة التي تزامنت مع عملنا ومراجعة أوراقها في محاولة لتبيّن إلى أيّ حدّ استفدنا من اللسانيّات الحديثة في أعمالنا، وهذه النّدوات الثّلاث، هي:
المؤتمر الثّاني حول اللغويّات الحسابية العربيّة، الكويت، 27-29 نوفمبر 1989م.
_ السّجلّ العلميّ لندوة استخدام اللغة العربيّة في تقنية المعلومات، مكتبة الملك عبد العزيز العامّة بالرّياض، 10-14 مايو 1992م.
- ندوة قضايا اللغة العربيّة في عصر الحوسَبَة والعولمة، مجمع اللغة العربيّة الأردنيّ، 16-19 سبتمبر 2002م.وقد جاءت هذه الأبحاث الموزّعة على 13 عاماً ممثّلة إجمالاً لما اعتمدناه في عمليّات الحوسبة من أدوات، وما صدرنا عنه من مناهج خلال فترة عملنا الماضية، وهو ما يجعل هذه المراجع كافية في رأينا لتكوين صورة عامّة عن عملنا وأدواتنا المستخدمة في حوسبة العربيّة.
لسانيات الحاسوب العربية
[rtl]عند مقاربتنا هذا الموضوع نبدأ بالتأكيد على أننا حاسوبيون ولسنا لسانيين، لذلك فإن حديثنا هو حديث المثقف لا المتخصص. وهو بالمناسبة ما ينطبق أيضاً عند حديثنا عن علوم اللغة بمفهموها التراثي. لكن هذا الحديث في الحالين ينطلق من واقع تجربتنا في التطبيق العملي حاسوبياً لهذا العمق النظري الذي تمثله أبحاث لسانيات الحاسوب العربية، مما يعطي ثقافتنا في الموضوع بعداً إضافياً.[/rtl]
لقد جاءت الدّراسات العربيّة الموضوعة في هذا المجال كما نرى على محاور أربعة: فمنها ترجمات لكتبٍ غربيّة أنجزت بقصد التّعريف بالنّظريّة اللسانيّة الحديثة كترجمات دي سوسير وتشومسكي وغيرهما، ومنها مؤلّفات في التّعريف بهذه النّظريّة كعديد من كتب عبد السّلام المسدّي([url=#_ftn1][sup][1][/url])[/sup]، ومنها محاولات لتطبيق هذه النّظريّة على اللغة العربيّة ككتاب ريمون طحّان (الألسنيّة العربيّة)([url=#_ftn2][sup][2][/url])[/sup] وغيره، ومنها محاولات لعرض النّظريّة اللسانيّة العربيّة القديمة في قالبٍ حديث يقابل النّظريّة الغربيّة الحديثة ([url=#_ftn3][sup][3][/url])[/sup].
وبين هذا المحور أو ذاك جاء كثيرٌ من الدّراسات لتؤكّد عدّة أمورٍ أهمّها: قوّة حضور النّظريّة القديمة في تفكير المحدَثين ودراساتهم، مع الإحساس بالحاجة الملحّة إلى نظريّة حديثة أو إلى شكلٍ حديث للنّظريّة القديمة.
لكنّ ما يهمّنا هنا هو إلى إيّ مدىً وضعت نظريّة عربيّة لسانيّة حديثة بغضّ النّظر عمّا إذا كانت أصولها أو أجزاء منها عربيّة قديمة أو غربيّة محدَثة؟
[rtl]على صعيد التّنظير والتّرجمات نعتقد أنّ بإمكاننا القول بأنّ جزءاً لا بأس به من النّظريّة الغربيّة قد نقل إلى العربيّة، بمعنى أنّ هنالك ترجمات وكتباً تستوعب جميع فروع علم اللغة الصّوتيّة والمعجميّة والصّرفيّة والنّحويّة والدّلاليّة وغيرها من المجالات كعلاقة اللسانيّات بالأدب أو بالمجتمع وغيرها، لا بمعنى أنّ هذا النّقل كان وافياً بالمطلوب.[/rtl]
[rtl]وفي تعليقٍ له على الوضع المعرفيّ للّسانيّات العربيّة يقول د. عبد القادر الفاسي الفهري: " لا نغالي إذا قلنا إنّ وضع اللسانيّات في الأقطار العربيّة من وجهة معرفيّة خالصة يطبعه التّشتّت والتّسيّب"([url=#_ftn4][sup][4][/url])[/sup]. ويحاول د. الفهري أن يحدّد مظاهر هذا التّشتّت والتّسيّب فيشير إلى عدّة نقاط هي([url=#_ftn5][sup][5][/url])[/sup]:[/rtl]
× التّسيّب المرجعيّ، حيث لا يأبه صاحب الخطاب اللغويّ بتحديد الإطار الّذي يندرج فيه خطابه، نظريّاً ومنهجيّاً ووصفيّاً، إلخ.
. عدم مراعاة أسلوب التأليف العلميّ، واتّصاف الدّراسات بالعشوائيّة وعدم الجدّيّة، والتّقصير في التّوثيق، وغيرها.× اضطراب المصطلح.
. تعدّد المدارس اللسانيّة الموظّفة بين الصّوريّة والاجتماعيّة والوظيفيّة والنّسقيّة، إلخ. من دون أن يرجع تعدّد النّماذج إلى اقتناع حقيقيّ بكفاية النّموذج.
× مشاكل التّرجمة سواءً على مستوى الكمّ أم الكيف.
ورغم أن هذا الكلام قيل في عام 1987 إلا أننا رأينا من خلال عملنا في التطبيق أن ملامحه اتضحت على مر الأيام بشكل أعمق بدل أن تساهم حركة البحث العلمي العربية في محوها. وهو حكم يحتاج إلى تفصيل لكن ليس مكانه هذه الورقة.
[rtl]وفي هذا السّياق لاحظنا طغيان الأبحاث النظرية الّتي تتعلّق بالأصوات والصّوتيّات وبالمعجم، وبالتّركيب (أو النّحو) والدّلالة على مجمل الأبحاث التّطبيقيّة، والغياب شبه التّامّ- في حدود اطّلاعنا- للأبحاث التّطبيقيّة الصّرفيّة والدّلالية. ويمكن تصوّر فداحة المشكلة إذا أقررنا بما يردّده معظم الباحثين في هذا المجال من كون الصّرف يحتلّ واسطةَ العقد في المنظومة اللغويّة العربيّة.[/rtl]
ففي مجال علم الأصوات (الفونوتيك) وعلم النّظم الصّوتيّة (الفونولوجي)، نجد عدداً من الكتب قد قدّمت وصفاً وافياً للنّظام الصّوتيّ في العربيّة منها على سبيل المثال (الأصوات اللغويّة)([url=#_ftn6][sup][6][/url])[/sup] لإبراهيم أنيس، و(دراسات في علم اللغة: القسم الثّاني:الأصوات)([url=#_ftn7][sup][7][/url])[/sup] للدكتور كمال بشر، كما نجد عدداً كبيراً من الدّراسات والأبحاث خاصّة ما يتعلّق منها بالقرآن الكريم وقراءاته، وبالدّراسات المقارنة مع اللغات السّاميّة وغيرها. ويغلب على دارسي الصِّواتة –بحسب د. الفهري- التّيّار التّوليديّ التّحويليّ([url=#_ftn8][sup][8][/url])[/sup].
[rtl]ولعلّ انصباب البحث على الأصوات والصّوتيّات يعود إلى مقدار الانضباط الّذي يحكم هذا الفرع، وإلى تقاطعه في مساحات واسعة مع البحث الصّوتيّ في اللغات الأخرى، وأيضاً إلى ما يتيحه من تجارب مختبريّة تجعله إلى العلم أقرب منه إلى النّظريّة، كذلك ربّما يرجع إلى غنى التّصوّر القديم وثرائه بسبب الاهتمام بعلوم التّجويد والقراءات. ومع ذلك يلاحظ داود عبده أنّ معظم ما نشر باللغة العربيّة في حقل الدّراسات الصّوتيّة كان مجرّد وصفٍ للظّواهر الصّوتيّة من دون محاولةٍ لتفسيرها([url=#_ftn9][sup][9][/url])[/sup].[/rtl]
[rtl]أمّا أبحاث التّركيب( النّحو)، فهي ربّما تحتلّ الجزء الأكبر من الدّراسات التّطبيقيّة، وقد اعتمدت في الغالب على النّظريّة التّوليديّة التّحويليّة كما نجد عند د. ميشال زكريّا في دراساتٍ عديدة مثل (الألسنيّة التّوليديّة والتّحويليّة وقواعد اللغة العربيّة) وغيرها، وعلى هذه النّظريّة بالتّزاوج مع النّظريّة العربيّة القديمة كما عند د. مازن الوعر في (نحو نظريّة لسانيّة عربيّة حديثة لتحليل التّراكيب الأساسيّة في اللغة العربيّة)، وعند غيرهما من الباحثين.[/rtl]
لكنّ كثيراً من الدّارسين يشكّك في صحّة كثيرٍ من هذه التّطبيقات، وينبّه على أخطاء وتجاوزات للنّظريّة المطبّقة، فنجد د. محمد فتيح مثلاً يبسط القول في أخطاء الّذين طبّقوا النّظريّة التّوليديّة التّحويليّة على العربيّة([url=#_ftn10][sup][10][/url])[/sup]، من عدّة زوايا أهمّها:
× قصور الفهم للنّظريّة والتّطبيق الخاطئ.
. الاقتصار على مراحل النّظريّة الأولى وعدم متابعة تطوّراتها.
× الخلل وعدم الانتظام في استخدام المصطلح.
× ونجد لدى د. فتيح تحليلاً وافياً لتجربة د. ميشال زكريّا في تطبيق النّظريّة التّوليديّة التّحويليّة على العربيّة، وبيان للمآخذ عليها.
نجد كذلك مدرسة هي "المدرسة الخليليّة الحديثة" تحاول أن تستنبط من أعمال الخليل بن أحمد وتلاميذه نظريّة عربيّة حديثة تمثّل امتداداً منتقى لآرائهم ونظريّاتهم السّابقة([url=#_ftn11][sup][11][/url])[/sup]. وإن تكن هذه النّظريّة قد تعرّضت لكثيرٍ من النّقد والاتّهام بالتّكلّف في فهم آراء القدماء وتحميلها ما لا تحتمل.
أمّا في مجال الدّلالة فيرى د. محمّد غاليم أنّه " إذا كان البحث الدّلاليّ في لغاتٍ أخرى قد قطع أشواطاً مهمّة فإنّ المكتبة العربيّة ما تزال فقيرة إلى حدٍّ كبير في هذا الميدان... فالمنشورات العربيّة على قلّتها يتّسم أغلبها بسمة واحدة أساسيّة هي غياب التّصوّر النّظريّ والمنهجيّ الواضح" ([url=#_ftn12][sup][12][/url])[/sup]، ويقدّم د. غاليم نقداً تطبيقيّاً لأبرز كتب الدّلالة العربيّة يوضّح فيه مآخذه عليها.
إذن، والحال هذه، فإنّنا نجد من الصّعوبة بمكانٍ التّحدّثَ عن نظريّة لسانيّة عربيّة حديثة متكاملة، وإن كان من الممكن الحديث عن أبحاث لسانيّة بعضها ناضج وبعضها الآخر أقلّ من ذلك، وعن فروعٍ من البحث اللغويّ قد حالفها الحظّ في الدّراسة أكثر من فروعٍ أخرى.
[rtl]الخلاصة[/rtl]
[rtl]من المؤكّد أنّ النّظريّة القديمة –على وضعها الحاليّ- لا يمكن أن تنبنيَ عليها حوسبة متكاملة للعربيّة، لكنّ من الواضح أيضاً أنّ النّظريّة اللسانيّة الحديثة لم تضع نموذجاً متكاملاً لعلوم العربيّة يصلح قاعدة لحوسبة متكاملة. وإنّ هذه المشكلة تمثّل –في تصورنا- ذروة التّناقض عندما يراد حوسبة شيءٍ غير مؤطَّرٍ نظرياً.[/rtl]
[rtl]لقد جاء في تراثنا اللغوي كثير من الإشراقات اللغوية العلمية التي طرحتها النظريات اللسانية الحديثة. لكن هذا برأينا لا يغني عن استخدام مناهج البحث اللغوي الحديثة في وصف اللغة وفي البحث اللغوي. ولاشك أن التطور من قضايا العلم الطبيعية، فاللغة الفصحى وإن كانت ثابتة وخالدة بحكم ارتباطها بالقرآن، إلا أن وصفها ووسائل تعليمها قابلة للتغير. واللغويون القدماء لم يضعوا قواعد اللغة، بل استخلصوها من الواقع اللغوي ووصفوها بالوسائل التي كانت متوفرة لهم في ذلك الوقت. والآن وقد ظهرت أدوات جديدة للوصف اللغوي فلا نرى بدّاً من الأخذ بها حتى تستمر اللغة في الوجود مواكبة للتطور العلمي.[/rtl]
[rtl]ونشير إلى مساهمة مهمة ومثال وجدناه جديراً بالاهتمام يتمثل في كتاب (العربيّة، نحو توصيف جديد في ضوء اللسانيّات الحاسوبيّة) للدكتور نهاد الموسى. فإنّ أهمّيّة هذا الكتاب في نظرنا تكمن في نقطتين منهجيتين: الأولى تتّصل باستيعابه للقضايا المختلفة الّتي تشكّل اهتماماً للسانيّي الحاسوب العرب، والثّانية باعتماده التراث اللغوي مصدراً لبناء مادة عمله مستعيناً به على صعيد المحتوى والأدوات، وتوظيف هذا كله توظيفاً جديداً. وهو ما نرى أنه دور يمكن للغويين العرب القيام به في إعادة وصف اللغة الفصحى، تمهيداً لطرح جديد يتناول أساليب دراستها وتدريسها، وربما يكون مقدمة لتناول لساني مختلف.[/rtl]
[url=#_ftnref1][/url].[1] تجد سرداً للتّرجمات ولكتب المسدّي في ثَبَت: المسدّي، عبد الرحمن. مراجع اللسانيّات.
[url=#_ftnref2][/url].[2] طحّان، ريمون. الألسنيّة العربيّة. دار الكتاب اللبنانيّ.
[url=#_ftnref3][3][/url]. كما فعل د. مازن الوعر في القسم الأوّل من كتابه نحو نظريّة لسانيّة عربيّة حديثة لتحليل التّراكيب الأساسيّة في اللغة العربيّة. دار طلاس.
[url=#_ftnref4][4][/url] . عبد القادر الفاسيّ الفهريّ. ندوة تقدّم اللسانيّات في الأقطار العربيّة، وقائع ندوة جهويّة، الرّباط، أبريل 1987، ص12.
[url=#_ftnref5][5][/url]. نفسه: ص12-16.
[url=#_ftnref6][6][/url]. صدرت طبعته الأولى في القاهرة 1950م.
[url=#_ftnref7][7][/url]. صدرت طبعته الأولى في القاهرة 1970م.
[url=#_ftnref8][8][/url]. عبد القادر الفاسيّ الفهريّ. ندوة تقدّم اللسانيّات في الأقطار العربيّة، ص16.
[url=#_ftnref9][9][/url]. الدّراسات الصّوتيّة في اللغة العربيّة بين الوصف والتّفسير. ندوة تقدّم اللسانيّات في الأقطار العربيّة، ص43.
[url=#_ftnref10][10][/url]. مقدّمة د. محمد فتيح لترجمته لكتاب: تشومسكي، المعرفة اللغويّة، طبيعتها وأصولها واستخدامها: ص9-39.
[url=#_ftnref11][11][/url]. د. عبد الرحمن الحاج صالح. المدرسة الخليليّة الحديثة والدّراسات اللسانيّة الحاليّة في العالم العربيّ، ندوة تقدّم اللسانيّات في الأقطار العربيّة، ص367.
[url=#_ftnref12][12][/url]. عن البحث الدّلاليّ العربيّ، ندوة تقدّم اللسانيّات في الأقطار العربيّة، ص101.