نقد أدبي حديث / المحاضرة الأولى
مقدمة في النقد الأدبي العربي الحديث
لخصها وأعدها للنشر : الأستاذ حسن خليفة
توطئة:
في ضوء عدد من المعطيات المتصلة بمادة "النقد الأدبي" بصفة عامة، و"النقد الأدبي العربي الحديث" بصفة خاصة، ومنها على وجه التحديد :
- صلة المادة بجانب في التكوين لا يليق بطالب الأدب أن يكون "فارغا" منه، كقدرته على الفهم، والشرح، والتحليل، فضلا عن التذوق والنقد ..
- أهمية المادة ذاتها؛ من حيث إنها تغني التجربة الدراسية والبحثية، وتعد الطالب بشكل أجود.
- اتساع المادة وامتدادها على مدى زمني يزيد على قرن ونصف القرن، بما يجعل البعض يقفز على فترة تزيد على خمسين عاما أو أقل، تحت أي دعوى.
- وفرة المفردات، وكثرة المحاور؛ بما يجعل المادة واحدة من أغزر المواد وأغنى المقاييس في منظمومة التكوين، بالنسبة للطالب في أقسام اللغة العربية وآدابها .
- تنوع وتداخل القضايا "النقدية" التي تحتاج إلى الإحاطة والإلمام، فضلا عن الدرس والمناقشة .
- تعدد الأعلام في هذه الفترة الزمنية الطويلة، وسقوط بعضهم من "قاموس" الاهتمام في الدراسات الجامعية ، بما يجعل الطالب يتخرج من قسم الأدب وهو لا يعرف عددا كبيرا من أعلام النقد الحديث، بل ولم يسمع بذكرهم مجرد سماع..
- اعتماد المذهب الانتقائي، وإهمال الكثير من الأعلام والكتاب الذين أسهموا في التأسيس لحركة الأدب والنقد، بدعوى أنهم "لغويون" أو " مصلحون "وما شابه ذلك، مع أن هؤلاء من الناحية العلمية والتاريخية مشهود لهم بالقدر الواسع من الإسهام في التأسيس والتوجيه والإعداد لحركة النقد الأدبي العربي ، بشكل ملموس وبارز.
- فضلا عن كل ذلك فإن المادة(النقد) على صلة بجوانب عملية ملحة؛ حيث يستطيع المتعمق فيها أن يكون على نحو أفضل في "الفهم"، وفي مستوى أمثل في التقدير والتمييز؛ ذلك لأن النقد لا يقتصر في صلته، بالأدب فحسب، بل هو على صلة بالحياة كلها، بكل ما فيها، وحاسة التمييز التي هي "الملكة" الأولى في النقد، يمكن تطويرها وتنميتها لتصبح مهارات متعددة يمكن استثمارها في ميادين الحياة والثقافة والأدب والفن.
كل تلك المعطيات وغيرها هو ما دفعني إلى إعداد هذه المذكرة، وإن بشكل غير مكتمل، ولكنه – على كل حال –يفي بالحاجة الآنية، ويتيح للطالب أن يجعل منها قاعدة ينطلق منها ويبني عليها، فهي "مستند " علمي وتربوي شخصي، يسمح للطالب، حين العود إليه ودراسته بعمق، أن يفهم هذه المادة ويأخذ فكرة جيدة عنها، وينطلق بعد ذلك في آفاق أخرى أوسع وأرحب. ولا يفوتني التذكير بمنهجنا المعتمد في دراسة المادة ،والموزع بين :الحصة، والتدريب(البحثي)، وهذه المطبوعة –المستند ..فضلا عما سنحاول الاجتهاد فيه مستقبلا فيما يتصل بالتدريب على التحليل والدرس والنقد والتذوق..وإني لأهيب بالطلاب والطالبات أن يعنوا بالمادة – وبسائر المواد والمقاييس- عناية أكبر وأمتن؛ لأن الأمر جد، يتصل بتكوينهم الذي هورأسمالهم الرئيس،وربما الوحيد في مواجهة الحياة العملية بعد حين من الوقت .
أسئلة أولى : ما النقد، ومن هو الناقد ؟
ماهي حقيقة عمل الناقد ؟ أتُرى إذا فسر العمل الأدبي وحلله، واجتهد في أن يبين عن مقاصده ويكشف مراميه ويشير إلى محاسنه ومساوئه ؟ أم إذا قدم للقاريء ما يتيح له أن يتذوق العمل الأدبي الفني ويستمتع به، ويستوعبه قبل ذلك؟
أم تراه يحسن به – الناقد - فوق تحليل العمل الأدبي، أن يحلل نفسية الأديب- عن طريق عمله الأدبي- ويضع يده على معالم الطريق الذي سار فيه الأديب ؟.
أم أن الوفاء برسالة النقد تقتضي، فوق هذا وذاك، أن يغوص الناقد في ثنايا العمل الأدبي، ويعمل على الوصول إلى أعمق ما يمكن من المعاني التي نثرها الأديب – المبدع، إن بطريقة شعورية مباشرة، أو بطريقة لا شعورية غير مباشرة.؟
أم أن عمل الناقد في الأساس هو الحرص على تحديد القيمة الجمالية في النص الأدبي الفني، وبيان امتداداته الاجتماعية والنفسية والثقافية والتاريخية والسياسية..الخ؟
إنه ليس من السهل في كل الأحوال أن نقدم الإجابات عن هذه الأسئلة وغيرها كثير.ولكن بوسعنا أن نقول: إن النقد نوع من أنواع النشاط النظري في الأدب.قوامه البحث في "العمل الأدبي" والاشتغال عليه بغية دراسته وتحليله، والوصول إلى أبعد ما يمكن أن يكون فيه من المقاصد، مع بيان مواطن القوة ومواطن الضعف على حد سواء، استنادا إلى وجهة نظر الناقد ومقاييسه ومفاهيمه ؛ لان النقد ـ في الخلاصة ـ عمل إنساني ذاتي أي يصدر من ذات إنسانية مهما اتصفت بالموضوعية ، فإن لها ميولها وتوجهاتها ، ما تحب وما تكره .1
غير أن هناك شروطا يجدر تسجيلها هنا ، يجب أن تتوافر للناقد حتى يأتي عمله نوعا أدبيا رفيعا وحتى يؤدي دوره النظري الفاعل ، بالنسبة لموضوع النقد ذاته ، وبالنسبة لتشكيل الرأي الأدبي والذوقي إذا صح التعبير .
"وأول ما ينبغي أن يتمتع به الناقد من شروط القدرة على عمله وليبلغ غايته منه ، شرط الثقافة الواسعة, وثمة شروط يذكرها الدارسون ، متشابهة في مضامينها، وإن اختلفت في مصطلحاتها اللفظية، ومنها: التجرد عن الأهواء الخاصة - قوة الإدراك - ملكة التذوق . ولعل السبب الذي دفع الدارسين إلى اشتراط هذه الشروط كلها، يعود إلى الدور الهام الذي يمثله النقد بالنسبة للعمل الأدبي خاصة، وبالنسبة للأعمال الفنية الإنسانية بصفة عامة، فكثير من الفاشلين والموتورين اشتغلوا نقادا ، في كل عصر ومصر ، فاسفوا بالنقد والنقاد والأدب والأدباء، وفي دنيا الكتابة والأدب والنقد منذ القديم إلى اليوم.. صور بشعة عن واقع هذا النقد الأدبي و الثقافي ، كيف يلعب به اللاعبون ، ويعبث به العابثون، مدحا وإطراء ،حيث لا ينبغي المدح والإطراء ، وتشهيرا ومسخا حيث يجب الثناء والتقدير . (2)
هناك دخلاء على النقد والنقاد، كما أن هناك دخلاء متطفلين على الأدب والأدباء والثقافة والمثقفين والسياسة والسياسيين ،ودخلاء متطفلين في كل فن ولون وحقل نشاط. وهناك لاهون عابثون يحولون هذا "النقد" سلاحا للهدم بدلا من أن يكون سلاحا وأداة للبناء . وكل ذلك يستوجب الانتباه والتمييز. حتى لا تختلط المفاهيم ولا تلتبس الأمور. فالنقد بشروطه، وليس كل كاتب مؤهلا ليكون ناقدا.كما أن كل كاتب غير مؤهل ليكون أديبا.وسنعرض لذلك في أوانه عندما نستعرض النصوص النقدية لكل من مدرسة الديوان ، والغربال، ومنهج طه حسين ، ومجموع المعارك النقدية التي ميزت فترة من فترات النقد الحديث .
غير أنه مهما تكن النتائج التي تنتج عن ضرر النقد بليغة ، فإن فائدته الحقة لدراسة الأدب لا يتردد فيها لحظة واحدة، فإن إنكار فائدة النقد هو ادعاء إما بأنه لا يمكن أن يكون أحد آخر أعقل منا،وإما بأننا لا نستطيع قط أن نستفيد من فرد آخر، من تجربة وعقل آخر أكبر وأعظم. ومهمة النقد الأساسية هي أن يوحي ويشجع وينير السبيل. فإذا كان شاعر كبير يجعلنا مشاركين له في فهمه الأعظم لمعنى الحياة، فإن ناقدا كبيرا يجعلنا مشاركين له في فهمه الأعظم لمعنى الأدب.والناقد الحق هو الذي يزاول عمله بمعرفة عن موضوعه تلك المعرفة التي هي - في عمقها وصحتها - أعظم بكثير من معرفتنا نحن ،والذي قد وُهب مواهب خاصة في عمق النظرة والتغلغل والفهم. ..
إن الناقد هو ذلك الذي يأخذ بأيدينا في رحلة استكشاف لأي موضوع نعرض له، كتابا ، أو نصا ، أو قضية..وبمساعدته نستكشف المزيد من القوة والجمال والغنى والعمق والقيمة فيما نعرض له ونقرأه وندرسه، فالناقد كثيرا ما يعطينا وجهة نظرة جديدة تماما، وكثيرا ما يؤدي مساعدة خاصة بأن يترجم في تعابير واضحة محسوسة محددة أمورا لم نكن نحس بها إلا إحساسا عاما غامضا ليس له قيمة عملية. فهو – الناقد – أحيانا مستكشف يستكشف أرضا جديدة، وهو أحيانا رفيق وصديق يدلنا على جوانب غير منظورة من الأشياء التي نمر بها في طريقنا، حتى تلك التي نعرفها معرفة جيدة. وهكذا يعلمنا أن نقرأ ثانية لأنفسنا بذكاء أعظم وبتقدير أعم، وفي ذلك كل الفائدة .(3)
ولكن مع ذلك فلنحاول في عجالة أن نتعرف على مسار النقد ومفهومه منذ القديم.
النقد في اللغة معناه : فحص النقود وبيان الزائف من السليم فيها. وفي اصطلاح أهل الأدب : هوتقدير (العمل الأدبي) وبيان الجيد أو الرديء منه أو فيه ، فقد يكون في النص الأدبي جزء جيد وآخر رديء. وكذلك الكشف عن حظه من الجمال والقبح ،وأسباب ذلك ، أي تعليل لماذا جاء هذا جميلا والآخر قبيحا . وهذا اللون من الأدب النظري أو الأدب الوصفي، كما كان يُسمى، قديم عرفه العرب منذ الجاهلية، فقد أثر عنهم أنهم كانوا يتناشدون الأشعار في الأسواق ،ومنها سوق عكاظ ، ويحتكمون إلى أهل البصر/المعرفة... بالشعر كالنابغة الذبياني ، فيحكم لأيهم أجاد(4)
ومثل ذلك كان في الإسلام ومنه حديث الوفود، فقد أثر أن وفدا من تميم وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم الزبرقان بن بدر،والاقرع بن حابس ،وقيس بن عاصم ، ونادوه من وراء الحجرات في غلظة وعنجهية :أن أخرج إلينا نفاخرك يا محمد* ، ثم جلسوا للمفاخرة، فخطب خطيبهم ، فرد عليه ثابت بن قيس الأنصاري خطيب النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أنشد الزبرقان بن بدر فرد عليه حسان بن ثابت ، فقال قيس بن عاصم :" إن هذا الرجل لمؤثر له، والله إن لشاعره أشعر من شاعرنا ، ولخطيبه أخطب من خطيبنا، ولأصواتهم أرفع من أصواتنا" ، ثم أسلموا جميعا . ومنه أيضا ما كان في "مربد " البصرة ونقائض جرير والفرزدق ، فكلها كانت تتضمن أحكاما عن الشعر ، وليعد الطالب إليها في مظانها للاستزادة والاستفادة أو للاستئناس .
ولم تكن آراء "النقاد " (النقاد بين قوسين هنا ) في تلك الفترة مبنية على قواعد وأصول ، وإنما كانت تتأسس على إحساس في نفس الناقد ، وبصر بالشعر وفنونه، كما كانت حكما مختصرا سريعا، يحكمون به على شاعر من الشعراء ، إما له ، أو عليه، أي في غير صالحه.
وتزخر كتب الأدب بكثير من هذه الأحكام الموجزة ومنها: أن عمر بن الخطاب قال عن زهير بن أبي سُلمى إنه أشعر الشعراء ؛ لأنه كان لا يعاظل في الكلام ولا يمدح الرجل إلا بما فيه .
وكتب الحجاح بن يوسف لقتيبة بن مسلم(وهو أحد القادة الأمويين البارزين وكان ذا بصر بالشعر) ...كتب يسأله: عن أشعر الشعراء، فأجابه بقوله: أشعر الجاهلية امرؤ القيس، وأما شعراء الوقت (يعني الوقت الحاضر في ذلك الزمن ) فالفرزدق أفخرهم ، وجرير أهجاهم،والأخطل أوصفهم. بما يدل على أن النقد الأدبي كان في عصر الجاهلية وردحا من العصر الإسلامي والأموي عبارة عن خطرات فطرية سريعة لا تستند إلى قواعد مخصوصة ، بيد أن تلك الأحكام كانت صادقة غالبا ؛ لأنها تصدر عن معرفة بالأدب وفنون العربية، كما تصدر عن فطنة وبصيرة فلما جاء العصر العباسي وألف المؤلفون كتبا في النقد الأدبي اتسع ميدانه، وبانت أكثر معالمه .ومن الذين توسعوا فيه الجاحظ.
ويرى أحمد أمين (في كتابه:النقد الأدبي ) أن كلمة النقد : تعني في مفهومها الدقيق الحكم وهو مفهوم نلحظه في كل استعمالات الكلمة حتى في أشدها عموما . ومن هنا فالناقد الأدبي : يعتبر –مبدئيا- كخبير يستعمل قدرة خاصة ومهارات مميزة في قطعة من الفن الأدبي ،هي عمل لمؤلف ما، فيفحص مزاياها وعيوبها ويصدرعليها حكما.
وبقطع النظر عن اتفاق أو اختلاف الدارسين في أهمية النقد وضرورته، فإنه من المفيد ، في تصورنا، أن نؤكد أن فائدة النقد كبيرة وعظيمة، بالنسبة للقاريء المتلقي،وبالنسبة للاديب نفسه .كماشرحنا ذلك بإسهاب في محاضراتنا ودروسنا التطبيقية ، مع الأمثلة الكثيرة التي بسطناها؛ حيث بينا أنه لولا النقد لما كان للأدب كل هذه القيمة وكل هذا التأثير والفاعلية .