مبادئ في اللسانيات العامة
الجزء الأول
المركز الجامعي، غليزان
تمهيد ـ في تعريف اللسانيات:
اللسانيات مصطلح يعنى العلم الخاص بالدراسة الموضوعية للغة البشرية من خلال الألسنة الخاصة بكل قوم ، وهو مشتق من لسن بمعنى فصح واللسان في اللغة يحمل عدة معاني منها: أداه بلع للطعام / عضو (آلة) للنطق/ أداة للتعبير/ للاتصال. ولقد ظهر المصطلح لأول مرة في سنة 1816م مع جهود النحاة المقارنين ، إلاّ أنه تبلور واتضحت حدوده مع اللساني الفرنسي فرديناند دي سوسير (f.de Saussure) من خلال محاضراته المشهورة سنة 1916م.
"اللسانيات هي العلم الذي يدرس اللغة الإنسانية دراسة علمية تقوم على الوصف ومعاينة الوقائع بعيدا عن النزعة التعليمية والأحكام المعيارية "1. والمقصود بالدراسة العلمية التوفر على قدر معين من المنهجية والشمولية التي تتيح الإحاطة الموضوعية بكل مفاصل المادة اللغوية . لكن ألم يكن النحو القديم دراسة لغوية ؟
الاختلاف بين الدراسة اللسانية وعلم اللغة:
يحدد جون ليونز عناصر الاختلاف بين الدراسة اللسانية وعلم اللغة كما كان متعارف عليه قبل القرن التاسع عشر في الخصائص التالية :
1ـ اللسانيات تتصف بالاستقلالية وهذا أهم مظاهر استقلاليتها. في حين أن النحو التقليدي كان يتصل بالفلسفة والمنطق بل كان خاضعا لهما في بعض الأحيان.
2ـ تهتم اللسانيات باللغة المنطوقة قبل المكتوبة ، أما النحو التقليدي فاهتمامه انصب على النص المكتوب
3ـ عدم تفضيل الفصحى على غيرها من اللهجات. فاللهجات على اختلافها وتعددها لا تقل أهمية عن سواها من مستويات الاستخدام اللغوية
4ـ اللسانيات دراسة عامة تقوم على بناء نظرية لسانية يمكن تطبيقها على جميع اللغات الإنسانية.
5ـ لا تهتم اللسانيات بين اللغات البدائية والمتحضرة لأنها كلها جديرة بالدرس والبحث العلميين
6ـ تدرس اللسانيات اللغة ككل وعلى صعيد واحد في تسلسل متدرج من الأصوات إلى الدلالة مرورا بالجوانب الصرفية والنحوية.
مهام اللسانيات:
ويحدد سوسير مهام اللسانيات في ثلاثة هي:
1 ـ البحث عن القوى الموجودة في اللغات كافة وبطريقة شمولية متواصلة، ثم استخلاص القوانين العامة التي يمكن أن ترد إليها كل ظواهر التاريخ الخاصة .
2 ـ تقديم وصف وتاريخ مجموع اللغات وهذا يعني سرد تاريخ الأسر اللغوية وإعادة بناء اللغات الأم في كل منها.
3 ـ تحديد نفسها والاعتراف بنفسها. يقول سوسير: "يتكون موضوع اللسان أولا من جميع مظاهر اللغة الإنسانية وتعبيراتها سواء منها لغة الشعوب البدائية أو الشعوب المتحضرة، وسواء تعلق الأمر بالعصور المغرقة في القدم، نقصد العصور الكلاسيكية أو عصور عهد الانحطاط آخذين بعين الاعتبار بالنسبة لكل مرحلة لا اللغة السليمة واللغة الممتازة فقط بل جميع أصناف التعبير وأشكاله. وهذا وحده لا يكفي إذ لما كانت اللغة كثيرا ما يذهل الناس عن ملاحظتها، تعين على عالم اللسان أن يعتبر النصوص المكتوبة مادامت قادرة وحدها على أن تجعله يعرف أصناف التراكيب الخاصة القديمة منها والعتيقة " 4 .
وقد حدد سوسير المراحل المؤرخة لعلم اللسان في ثلاثة هي التي تحكمت في رؤية مؤرخي النشأة:
الأولى ـ علم النحو عند القدماء الذي عرف استمرارا مع بورويال وأهم ما يميزها انبناؤها على المنطق والتفسير العقلي والمعيارية " وكانت غاية هذه الدراسة تنحصر على وجه التحديد في إيجاد قواعد من شأنها أن تميز الصيغ الإعرابية الصحيحة من الصيغ الخاطئة . فهي إذن دراسة معيارية بعيدة كل البعد عن الملاحظة الخالصة وهي بالضرورة وجهة نظر ضيقة من هذه الناحية "5.
الثانية ـ مرحلة فقه اللغة الذي اهتم بالنصوص وتأويلها وتحليلها ولم يتخصص في الدراسة اللغوية "فإن أراد أن يتناول المسائل اللسانية فإنما يفعل ذلك خاصة من أجل أن يقارن بين نصوص مختلفة وأن يحدد اللغة الخاصة لكل مؤلف كاتب كما يحاول أن يهتدي إلى ما كتب في لغة قديمة أو غامضة وأن يفسر تلك الكتابة"6 . ومشكلة فقه اللغة أنه ارتبط باللغة المكتوبة دون المنطوقة
الثالثة ـ مرحلة النحو المقارن أو الفقه المقارن . وتقييم سوسير لهذا النحو بقوله : " إن الخطأ الأول الذي تولدت عنه سائر الأخطاء الأخرى كون النحو المقارن لم يتساءل في أبحاثه قط وهي أبحاث محصورة مع ذلك باللغات الهندأوربية عما إذا كانت مقارناته ومقارباته التي يقوم بها لها ما يقابلها في الواقع وعلى أي شيء تدل هذه العلاقات التي يكتشفها "7.
1 . النحو العام :
مدرسة بورويال الفرنسية :
نحو بورويال (1960) لأنطوان أرنولد (1612 ـ 1694) وكلود لانسلو (1915ـ 1695) هو أول محاولة معاصرة للنمذجة نظرية حول اللغة. لقد انطلقت من وجود رابط بين اللغة والمنطق واللغة هي تعبير عن الفكر. ومختلف مقولات الكلمات موافقة للمقولات المنطقية والاختلافات بين اللغات هي محللة على أنها اختلافات في السطح . وقد كان من بين كتاب بورويال كتاب للمنطق مما جعل تأثيره عليهم هو الأقوى . حيث كانوا يعرضون نظرية عامة للقواعد من خلال لغات مثل اللاتينية أو الفرنسية فجعلوا من ديكارت هو الأساس لمذهبهم متجاهلين اللغات الأخرى، ولكنهم حاولوا أن يكشفوا عن وحدة القواعد التي ترتكز عليها القواعد المستقلة للغات المختلفة في دورها في التفكير الاتصالي الذي يشتمل هو نفسه على الإدراك والحكم والتعليل.وقد قسم علماء بورويال على ضوء هذه القواعد العامة الكلمات الكلاسيكية المعروفة في النحو القديم: الاسم والأداة والضمير وحرف الجر والظرف والفعل والرابطة والتعجب وأعادوا تقسيمها على أساس دلالي . فالأقسام الخمسة الأولى ترتبط بمقاصد التفكير والأخيرة بشكل أو طريقة التفكير . وقد اعتمد تراث القواعد اللاتينية ليكون أساس كل اللغات وبأساليب متنوعة . يقول روبنز : " لقد قام قواعديو بورت رويال بمحاولة أصيلة لكتابة قواعد عامة ومستشهدين بأمثلة من الىتينية واليونانية والعبرية واللغات الأوربية الحديثة أرادوا أن يرجعوا هذه القواعد العامة إلى الخصائص العمومية المزعومة للغة ، وهي الخصائص التي ترتكز عليها تلك الأمثلة "8.وقد نشر مركز الدراسات النحوية في بورويال كتابه الشهير النحو العام والعقلاني "grammaire générale et raisonnée » الذي عبر عن القاعدة الأساسية لعلماء بورويال والقائل بأن النماذج النحوية ينبغي لها أن تتطابق مع متطلبات المنطق. ولما كان المنطق منطقا واحدا ومشتركا أمكن بناء نظرية واحدة لكل اللغات العالمية . ومن الآثار المبدئية لهذا النحو في ق 18 م لوضع نظريات نحوية فلسفية مثل كتاب اللغوي الإنجليزي جيمس هاريس في " بحث فلسفي في اللغة والنحو العام" .
يقول شومسكي عن هذه الأنحاء في كتابه: "القضايا الراهنة في النظرية اللسانية"1964. وذلك قوله:"ليس بعيدا عن الصواب أن ننظر إلى النموذج التحويلي على أنه صياغة شكلية منضبطة للخصائص الموجودة بشكل ضمني في الأنحاء التقليدية، وأن ننظر إلى تلك الأنحاء على أنها أنحاء توليدية تحويلية ضمنيا. ذلك أن هدف الأنحاء التقليدية أن توفر لمستعملها القدرة على فهم أي جملة من جمل اللغة، وأن يصوغها ويستعملها بشكل ملائم في المقام الملائم. ولهذا فإن هدفها(في الأقل) يماثل في اتساعه وبعده أهداف النحو التوليدي، الذي وصفته آنفا. يضاف إلى ذلك أن الآليات الوصفية للنحو التقليدي تفوق بكثير الحدود التي تقيد النموذج النحوي التصنيفي [السابق لتشومسكي]، لكن هذه الآليات يمكن صياغتها بشكل كبير، أو ربما بشكل كامل في إطار النموذج التحويلي. ومع ذلك فإن من المهم أن نعي أنه حتى أدق الأنحاء التقليدية وأكملها إنما تعتمد بشكل أساسي على حدس مستعملها وذكائه، وهو الذي ينتظر منه أن يستنتج المقتضيات الصحيحة من الأمثلة والإيحاءات الكثيرة (والقوائم الواضحة للشواذ) التي يقدمها النحو. فإذا صيغ النحو صياغة جيدة فإنه يمكن لمستعمله عندئذ أن ينجح في استعماله، لكن الاطرادات العميقة للغة التي يمكن له اكتشافها تستعصي على الصياغة المنضبطة، كما أن طبيعة القدرات التي مكنته من استخدام النحو واكتشاف تلك الاطرادات ستظل أمرا محيرا. ويمكن أن نقدر مدى اتساع هذه الفجوات إذا ما حاولنا أن نصوغ قواعد واضحة لكامل الحقائق البنيوية المتاحة للمستعمل الناضج للغة"9.
2 ـ السنسكريتية مدخل للمقارنة: تتفق جل الدراسات المؤرخة لظهور اللسانيات كعلم مختص في الدراسة العلمية للغة بأن المقدمات الممهدة لبروزه توجد في ما عرف في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تحت مسمى النحو التاريخي والمقارن. فإلى حدود القرن الثامن عشر كانت الدراسات اللغوية في أوروبا قليلة ومحدودة يعوزها التنظيم وتفتقر إلى المنهج العلمي المؤسس على الموضوعية والشمولية، كما اقتصرت على اللغتين المنقرضتين الإغريقية واللاتينية وبعض اللغات الأوروبية الحديثة، ولم يتجاوز الدرس اللغوي ذلك إلا في بعض دراسات قليلة تناول بها المستشرقون بعض اللغات السامية وبعض اللغات القديمة في جنوبي الهند.وفي نهاية القرن الثامن عشر حدث تحول مهم في الدراسة اللغوية في أوروبا، فقد اكتشف السير وليم جونز وهو قاض انكليزي في البنغال، في عام 1786 اللغة السنسكريتية بل عدت هذه السنة علامة مفصلية في تاريخ البحث اللغوي حيث قدم السير جونز الذي كان قاضيا في المحكمة البريطانية بالهند ورقته في الجمعية الملكية الآسيوية في كلكتا مثبتا القرابة التاريخية للسنسكريتية ، اللغة الكلاسيكية للهند ، مع اللاتينية واليونانية والجرمانية . ويقول في هذا التقرير المشهور والذائع الصيت : " اللغة السنسكريتية مهما يكن قدمها لغة ذات تركيب عجيب وهي أكثر كمالا من اليونانية وأغزر إنتاجا من اللاتيتنية وأكثر منهما تهذيبا بشكل رائع ، وهي فوق ذلك على قرابة بكل منهما في جذور الأفعال وصور القواعد معا ، قرابة اقوى من أن تكون نتاجا للمصادفة ، وهي قرابة قوية في الواقع لدرجة أن أي عالم في الفللجيا لا يمكنه أن يفحص اللغات الثلاث جميعا دون هناك أن يعتقد أنها نشأت عن اصل معين مشترك ربما لم يكن موجودا ، كما أن هناك مسوغا مشابها رغم أنه ليس قويا تماما لافتراض أن كلامن القوطية والسلتية تشتركان في نفس الأصل مع السنسكريتية"10.
وعند ظهور هذا الاكتشاف، تحولت أنظار علماء اللغة الأوربيين الى اللغة السنسكريتية والى وجوه الصلة بينها وبين لغاتهم، فبدأ الدرس اللغوي الحقيقي الحديث في القرن التاسع عشر، ولكن هذا الدرس اتخذ الطابع التاريخي المقارن، حتى صار هذا القرن يسمى قرن التاريخ اللغوي المقارن. ولو أن الحديث عن السنسكريتية ليس جديدا كل الجدة ، إذ أورد روبنز في كتابه أن أول إشارة معروفة للسنسكريتية قد كانت في نهاية ق 16 " عندما كتب الإيطالي فيليبو ساستي إلى وطنه من الهند واصفا اللغة السنسكريتية بإعجاب ومشيرا على ىعدد من التشابهات بين كلمات سنسكريتية وكلمات إيطالية . وبعد ذلك جرت ملاحظة تشابه بين السنسكريتية وبعض اللغات الأوربية من قبل الألماني ب.شولز والفرنسي بيير كوردو "11. لكن حسب روبنز أهمية هذه الوثيقة لا تكمن فيما قدمته من جديد بل لآنها صادفت الاهتمام الأوربي بدراسات الشرق الأدنى والهندية على الخصوص، خاصة بعد الحملات النابولونية .
ومما ساعد علماء اللغة الاوروبيين على بحوثهم واتاح لهم معرفة المزيد من الحقائق عن الظاهرة اللغوية، ان القرن التاسع عشر شهد كذلك ترجمة الاعمال اللغوية الهندية التي اتصلت باللغة السنسكريتية الى اللغة الانكليزية حتى قال بلومفيلد مبينا اثر الدراسات الهندية في علم اللغة الحديث: (لقد كانت الهند صاحبة الفضل في اثارة معلومات ادت الى الافكار الاوروبية الحديثة في اللغة) وقال ايضا: (وقد وضع النحو الهندي امام اوروبا اول مرة وصفا كاملا دقيقا شاملا للغة مؤسسا على الملاحظة العملية، لا على الافتراضات النظرية) وقال لورد بعد ان بيّن جهود النحاة السنسكريتيين في تحليل الاصوات اللغوية وتنظيمها، وفي وضع النظام النحوي: (وبغير تأثير هذه الدراسات في علماء اللغة الاوروبيين الذين عاشوا في اوائل القرن التاسع عشر، ما كان يمكن ان يظهر علم اللغة المقارن او يولد). وقال روبنز : "كان لدراسة الأوربيين اللغوية للسنسكريتية أثر مزدوج ، فقد شكلت مقارنة السنسكريتية باللغات الأوربية المرحلة الأولى في التطور المنهجي لعلم اللغة المقارن وعلم اللغة التاريخي، وإضافة لذلك أصبح الأوربيون على اتصال في الكتابات السنسكريتية بتراث العلم اللغوية في الهند الذي تطور بشكل مستقل والذي تم الاعتراف بمزاياه في الوقت نفسه وكان تأثيره في كثير من فروع علم اللغة الأوربي عميقا وباقيا "12 . فقد عرفت الهند تراثا لغويا غنيا في كل المستويات اللغويات دفعت العديد من الباحثين إلى القول بأن الدراسات الوصفية الغربية قد استفادت إلى حد كبير منه دلالة ومعجما وتركيبا وخاصة في الجانب الصوتي .وأهم الكتب المعروفة تاريخيا هو "القواعد السنسكريتية " لبانيني المعروفة باسم الكتب الثمانية الراجعة إلى مابين 600 و300 ق. م.الذي روي أنه تلقى هذا العلم عن طريق الوحي والإلهام تعبيرا عن دقة دراسته اللغوية . وكان خير مصادر الاستفادة عند الوصفيين الغربيين خاصة أنه كان يستبعد البحث المنطقي من بحوثه.
3- النحو المقارن : مبادئ وأسس : أتاحت السنسكريتية مجالا واسعا للمقارنة . فقد ركز علماء اللغة مع بداية القرن التاسع عشر على التحليل المقارن للغة، بدراسة النصوص المكتوبة، واكتشاف عناصر التشابه بين لغة وأخرى، وملاحظة التغيرات التي تطرأ على اللغة عبر الزمن، ومقارنة التغيرات التاريخية بين اللغات المتشابهة. وهو لم يكن أسلوبا خاصا باللغويين بل كان سائدا في الدراسات العلمية السائدة آنئذ خاصة علم التشريح والحياة. ويبرز ذلك في كتابات العالم الألماني شيلخل الذي قرر في كتاب له نشر في عام 1808 أن الوسيلة الوحيدة في إثبات الصلة بين أفراد مجموعة لغوية هو الشبه في نحوها وتراكيبها وليس في الألفاظ المشتركة بينها اعتمادا على الوسيلة التي توسل بها علم التشريح في تعريفه لظهور الكائن البشري . ويبرز ذلك على الخصوص في استمداد العلم اللغوي جهازه الاصطلاحي من العلوم الحية من نحو / حياة اللغة والجذور والجهاز العضوي..الخ13.لقد اثبت شليجل (ت1829) صلات التشابه الكثيرة التي تربط اللغات الأوربية والهندية والآرية بعضها ببعض في كتابه " خلاصة النحو المقارن للغات الهندية الجرمانية" كما قدم العالم الالماني جريم المتوفى 1863، دراسة للتقابلات الصوتية بين اللغات الجرمانية وغيرها من اللغات الهند اوروبية، مستنبطا بذلك قوانين صوتية تتحكم في هذا التقابل، سميت قوانين جريم. لكن ابرز مؤسس للقواعد المقارنة هو بوب (ت1867) صاحب "في نظام تصريف اللغة السنسكريتية ومقارنته بالأنظمة الصرفية المعروفة في اللغات اليونانية واللاتينية والفارسية والجرمانية". يقول سوسير: " فلم يستحق إذن بوب كل تقدير لكونه قد اكتشف بأن اللغة السنسكريتية ذات قرابة ببعض اللغات الأوربية والآسيوية بل لكونه قد فهم بأن العلاقات بين اللغات ذات الأصل الواحد يمكن أن تصبح موضوعا ومادة لعلم مستقل "14. من هنا أتت أهمية دراسة بوب التي استفاد منها العديد من الدارسين مثل ماكس مولر وجورج كوتيوس وأوغست شليشر.
ويتحدد منهج النحو المقارن بالتطبيق على المجموعات اللغوية المنتسبة إلى اصل واحد بعيد التي خضعت في تاريخها لتطورات متعددة. يقول السعران: " إن النحو المقارن يهيئ السبيل لتصنيف اللغات حسب خصائصها ولتجميعها في عائلات. فبمقارنة الأصوات والأشكال المستعملة في مجموعة من اللغات تظهر الأصوات والأشكال التي استحدثتها هذه اللغة أو تلك ، كما تتحدد الأصوات أو الأشكال القديمة التي احتفظت بها هذه أو تلك "15.
4- النحاة الجدد وظهور اللسانيات التاريخية : لقد عرف القرن التاسع عشر مرحلتين أساسيتين في الدراسة اللغوية : حقبة المقارنة وحقبة اللسانيات التاريخية. وإن كان من الصعب وضع تصنيف مضبوط وعلمي للمرحلتين فقد اتفق على أن الأولى تميزت بسيطرة الأبحاث المنشغلة بالبحث في القرابة بين اللغات ثم انتقلت على البحث الجزئي في التطور اللغوي الذي سيكتمل مع النحاة الجدد ما بين 1876 ـ 1886. أي أن البداية كانت مقارنة ثم غدت تاريخية. "وتتأتى أهمية إسهامات النحاة الجدد أن وصف اللسان الأم الذي يتمثل في الهندي الأوربي يرتكز على الوقائع الصوتية أكثر مما يرتكز على الوقائع الصرفية والتركيبية، فقد وضعوا قوانين صارمة لبحث الصلات المشتركة بين الكلمات التي تنتمي إلى ألسن مختلفة بحثا مقارنا"16. فمن هم النحاة الجدد؟ ولماذا ظهورهم في هذا القرن بالذات؟يعتبر القرن التاسع عشر هو قرن النزعة التطورية الداروينية. فقد أثرت نظرية داروين حول أصل الأنواع والتطور في مناهج العلوم والفلسفة مما انعكس على الدرس اللغوي. "فقد نظر اللغويون إلى اللغات واللهجات على انها كائنات يمكن تصنيفها حسب أنواعها ويتأتى حصر أعدادها وتتطور تطور النباتات والحيوانات "17. وقد عرف البحث اللغوي مجموعة من المحاولات الجادة في المقاربة التاريخية انتهت بشكل علمي وأكثر جدية مع النحاة الجدد néo-grammairiens. يطلق اصطلاح النحاة الجدد على بعض طلبة جورج كورتيوس الذي عرف بتطبيقه المنهج المقارنة التاريخي، ومن أشهرهم اثنان: بريكمان وأستوف وقد عبرا عن رأيهما في مقالة برنامجية اعتبرت منطلقهما المنهجي : "كل تغيرات الأصوات تحدث بوصفها عملية ميكانيكية حسب قوانين لا تسمح بأي استثناء داخل نفس اللهجة وفي إطار فترة معينة من الزمن، ونفس الصوت في المحيط الواحد سوف يتطور دائما بطريقة واحدة، ولكن التشكيل والابتداع القياسي لكلمات محددة بوصفها كيانات معجمية وقواعدية عبارة عن مكون عام للتغير اللغوي في كل فترات التاريخ وما قبل التاريخ"18. وبهذا قام علم اللغة التاريخي مع النحاة الجدد على مفهوم الاطراد الصوتي الذي يعني العلمية المنهجية مقارنة مع جهود علماء آخرين فقد " كان جريم ومعاصروه واقعين تحت تأثير الحركة الرومانسية، وقد نظر شليشر إلى عمله في إطار البيولوجيا وفي إطار النظرية الداروينية فيما بعد ، وقد أراد القواعديون الجدد أن يجعلوا علم اللغة التاريخي علما منضبطا متوافقا مع تلك العلوم الطبيعية التي حققت تقدما مدهشا في القرن التاسع عشر وكان منها علم الجيولوجيا على وجه ملحوظ"19.
لقد شكل النحاة الجدد تمهيدا للدرس اللساني بحيث نقلوا البحث اللغوي إلى مرحلة العلمية حين ابعدوا كل الممارسات الميثولوجية والعاطفية التي تقارب اللغة وفق رؤية انتمائية . كما اهتموا إلى حد كبير بدراسة اللهجات باعتبارها ممارسات لغوية كاملة بدل من تصورها انحرافات عن الأصل اللغوي كما قال النحو التقليدي المعياري وفق مبدأ الصواب والخطأ. لكنهم رأوا فيها ميدانا حيويا لما تظهره من التغير اللغوي ما دامت تمثل المرحلة ألأخيرة في تنوع الأسرة الهندأوربية .
كما تمت مراجعة القول بأن السنسكريتية هي أقدم اللغات كما تصور نحاة القرن التاسع عشر محاولين تقديم معالجة للإشكالات الصوتية التي اعترضت سبيل الباحثين ، معترضين على مثل هذه الفرضيات التي لا تسدي للبحث العلمي أية فائدة . والتأكيد على صرامة القوانين الصوتية وانعدام الاستثناء الأصواتي .
الهوامش والإحالات1 ـ مبادئ اللسانيات : محمد قدور.ص112 ـ نظرية شومسكي اللغوية ص39
3 ـ محاضرات في الألسنية العامة : سوسير ص17
4 ـ ن.م :ص 14
5 ـ ن.م : ص8
6 ـ ن.م : ص8
7ـ ن.م : ص11
8 ـ موجز تاريخ علم اللغة في الغرب : ر.ه. روبنز ترجمة : أحمد عوض ـ ص 210
9 ـ القضايا الراهنة في النظرية اللسانية : شومسكي ص 16ـ17.
10 ـروبنز ص224
11 ـ ن.م : ص 225 .
12 ـن.م : ص227.
13 ـ ج.مونان : تاريخ علم اللغة منذ نشأتها حتى القرن العشرين ص 162
14 ـ روبنز :ص09
15 ـ (علم اللغة : محمود السعران ـ ص 246
16 ـ (النحاة الجدد وميلاد اللسانيات التاريخية : أحمد يوسف عالم الفكر 245 ـ عدد :2 ـ المجلد 34 .
17 ـ السعران : ص 335
18 ـ روبنزص297
19 ـ نفسه : ص 298-299 .